حياة لمن لم يعشها و لم يحياها

عندما جاءت بخاطري هذه الفكرة لم يستغرقني التفكير كثيرا لأعرف أين أضعها فهي بالنسبة لي تعد من المشاكل العاطفية لحياة حـُرمت من أن أعيشها حياة كنت أتمناها و مازلت.

قد يندهش البعض من ذلك و لكن من أكثر الرغبات الملحة في حياتي كانت أن ألتحق بكلية و أن أحيا الحياة الجامعية، أستيقظ في الصباح الباكر، أستقل حافلة أو سيارة للذهاب إلى مجمع الكليات، أركض بسرعة لكي لا تفوتني المحاضرة، تتوه عيوني بين آرائك المدرج الضخم و الطلاب الكـثر الذين لن تستطيع أن تحصيهم عددا أو تجعلني أصادقهم أو أتعرف عليهم جميعا.

كانت دراستي الجامعية في إحدى الكليات الخاصة، عدد الطلاب قليل، مكان الدراسة لا يـُعدّ مدرجا بأي حال من الأحوال، تستطيع أن تحصيهم عددا بسهولة و يسر و تصادق و تتعرف على الجميع إذا أردت.

الجميع أصبح غير راغب في التعليم لظروف نعرفها جميعا لا داع ٍ للخوض فيها، لا يحضر الكثيرون المحاضرات في الكليات و لا يستذكرون إلا في نهاية العام فما بالكم بالكليات الخاصة و الحال فيها، شقيقي الذي يصغرني بسنة التحق بكلية التجارة و كنت ألاحظ بوادر الحياة الجامعية عليه حتى و إن كانت تجعله ساخطا في بعض الأحيان كنت أغبطه على هذا و أتمنى أن أكون قد حظيت بهذه الحياة، لذلك عندما واتتني الفرص لكي أصاحبه و أذهب معه في بعض الأحيان كنت أقتنصها رغبة ً مني في مشاهدة المجمع و التمتع بكثرة عدد الطلاب و هيئة المدرج الضخم بآرائكه الكثيرة، و هيئة شوارع المجمع الكثيرة و الانتظار فيها بين المحاضرات، كذلك شكل المحاضر و هو ينظر إلى هذا العدد الضخم بدون إمكانية أن يعرف أسماءهم جميعا، كنت سأود أن أكسب حظوته و أن أجعله يعرفني؛ لا شك أن هذا كان سيجعلني أشعر بالتميز أنه يعرفني و يعرف اسمي و هيئتي من كل الأعداد الكبيرة الحاضرة.
الآن أتعجب عند دخول شقيقي الأصغر الجامعة و ليس في رأسه الاهتمام بالحضور و الجلوس في المدرج لو يعلم أنني أريد أن أكون في مكان كالذي فيه و أحظى بالحضور و الذهاب إلى الكلية و الجلوس في المدرج الكبير.
كنت سأرغب في التعرف على من سأختراها لتكون شريكة حياتي، كنت سأتوق إلى رؤيتها بالتنورة و شعرها المعقوص كذيل الحصان بجديلة خلف رأسها، كنت سأحب رؤيتها بابتسامتها الخجلى لي و هي ترى في عينيّ نظرات الإعجاب و الحب الأولى، و هي ممسكة بكراس المحاضرات و تضمه بكلتا يديها إلى صدرها و تمشي بتؤدّة في الشارع الذي تقع فيه كليتنا كنت سأرغب في الحب بين مدرجات الجامعة، و الهمسات الخافتة الفرحة بين المحاضرات عند اعترافي بحبي لها لأول مرة و إخبارها لي أنها تبادلني ذات الشعور، كنت سأحب إبقاء مكان للجلوس لمن يصل أولا و إخباري لها و إخبارها لي عما أخرني أو أخرها، كنت سأحب تلامس الأيادي بخجل أسفل مقعد الدراسة و نطق الحب الصامت بيننا.
كنت سأحب همس العيون بين كل دقيقة صمت من المحاضر و كل لحظة ملل من المحاضرة و تمني انتهائها، كنت سأخشى من أن يلاحظ أحد تلامس الأيادي و نظرات الحب في العيون، كنت سأحب القلق من الرسوب؛ لكي أستطيع إنهاء دراستي سريعا حتى لا يأخذها أحد غيري بعد تخرجها.
أشعر بالفرحة و أنا أفكر في كل هذه الأمور التي لم يقدر لي الله فعلها لسبب يعلمه هو وحده سبحانه تعالى، ابتسامة خفيفة تعلو وجهي، لا تستطيع أن تكون مشرقة لأنها حزينة، حزينة لحزن صاحبها الذي لم يحقق أمنية كان يتمنى أن يعيشها و يحياها.
قد يتعجب الكثيرون من أنني على استعداد للتضحية بالكثير لكي يعود بي الزمان إلى الوراء و أستطيع أن أحيا هذه الحياة التي أفتقدها و سأظل، فتحقيقها أمسى و أضحى و أصبح مستحيلا و من ضمن الأشياء التي تمنيتها و لن تتحقق كرغبتي في أن أحيا عمري الحالي في فترة الثمانينات و ليس في هذا العصر المليئ بالزحم في كل الأشياء حتى بتنا نفتقر إلى الحب و الرغبة و السعي أصبحنا كما أمسينا، حالنا متوقف على الانتهاء من دقيقة لتليها الدقيقة التي بعدها و تمنـّي حياة لم يعشها و لم يحياها، يندم على ماضيه و يتحسر على حاضره و يخشى من مستقبله.
هناك الكثير من الأماني في حياتي قد يعوضني الله بتحقيقها و قد لا تتحقق بعضها أو حتى كلها، لكن سيبقى الحلم و الأمل بداخلي، لن أقول إلى نهاية حياتي؛ فحتى بعد نهايتها ستبقى روحي تهفو للرجوع لتجنب الكثير مما اقترفته من ذنوب و تحقيق الكثير مما يرضي الله، و يرضي روحي المتلهفة للسعي لتحقيق أمانيها و أحلامها.

سأكون حُلُماً من أحلامي

تعليقان (2)

  1. جميله جدا يااستاذ احمد بجد⁦❤️⁩
    1. ربنا يخليكي يا قمر تسلمي
حقوق النشر © شعاع من الماضي جميع الحقوق محفوظة
x