على ما يبدو إنني قد وصلت إلى نهاية الطريق الذي بلا نهاية، حياتي هي حياة إنسان من مخلوقات الله و حياة أي إنسان تجعل أي إنسان يتيقن و يعرف بأن الحياة تدور و لا تنتهي و لكنها مع ذلك لها نهاية بنهاية كل إنسان لكن نهاية كل إنسان لا تعد نهاية للحياة نفسها لأن هناك إنسان آخر يحيا هذه الحياة و مع نهاية هذه الحياة ستكون هناك حياة أخرى و هذا معناه أن حياة الإنسان لا تنتهي مع أنها تنتهي.
كلام غريب جال بخاطري و أنا أمر بأصعب مرحلة في عمري، فمع الضغوطات و الصعوبات التي عشتها طيلة حياتي، لم أعش أوقات عصيبة كهذه الأوقات التي أحياهها الآن؛ أنا شاب كآلاف آلاف الشباب في مصر، تخرجت من دراستي الجامعية، لم أستطع أن أحصل على وظيفة جيدة رغم أن مؤهلاتي تؤهلني لذلك، لست الأفضل هذا ما أعرفه عن نفسي و ما أتيقن منه، لكني أيضا لست سيئا و لا فاشلا كي أحيا بلا أمل في حياة مستقلة غير تابعة لوالدي الذي مازال يتولى أمري حتى هذه اللحظة.
السبب إنني مصري، كم أفتخر و أحب هذه الكلمة "مصر" كم أحب نغمها في أذني سواء أكانت بالفصحى أم العامية، هذه أرضي ولدت فيها أنا و أهلي و عاشت فيها طفولتي و صباي و شبابي و ماتت فيها أحلامي و طموحاتي التي أسعى كل لحظة لبعثها من جديد إلى الحياة فمع الموت دوما تـُخلق حياة و مع اليأس يـُخلق أمل، حياة تولد لكي تموت و أمل يـُخلق لكي ينتحر.
قامت الثورة، و شعرت بكل أحلامي و طموحاتي تـُخلق و تنبعث من جديد، و تولد معها أحلام و طموحات جديدة؛ فلأول مرة في عمري أشعر برغبتي في أن أصنع شيئا لمصر أشارك في بنائها و بناء مستقبلها الجديد، شعرت مع آلاف آلاف المصريين لأول مرة أننا مصريين، هذه مصرنا، هذه بلادنا، هذه حياتنا، ولد هذا الحلم و الطموح في أنفسنا بعد أن كنا فقط نسعى لوضع أنفسنا في أفضل موضع نستطيع أن نصل إليه.
و مع قيام الثورة رأيت بعض القيم المغلوطة تذوي و تتنحى لتحل بدلا منها قيم رائعة كان يواريها التراب و الطين و العفن؛ فرأيت المسلم يقف ليحمي الكنيسة و المسيحي يقف ليحمي المسلم و هو يصلي، شعور جميل بالوحدة اكتنفني و أنا من كنت متيقنا من أن المسلمين و المسيحيين سيفتكون ببعضهم بعد حادثة كنيسة القديسين.
استمرت الثورة، أسقطتْ النظام، فرضت إرادة الشعب على الحكومة لأول مرة، شعور قوي بالقوة و العزيمة اكتنفني كما اكتنف المصريين جميعا رفض الشعب الحكومة الجديدة فتركتْ السلطة، تكاتف الناس مع بعضهم على الرغم من اختلافهم.
كارثة لم تكن في الحسبان، كنيسة أخرى تتهدم، تساءل الناس في دهشة ما الذي حدث مرة أخرى ؟ عزّى الناس ذلك إلى النظام السابق الذي يحاول أن ينتقم فالمسلمون و المسيحيون قد أضحوا يدا واحدة، لم يعد هناك التراب الذي نثره النظام السابق على مشاعرنا و وحدتنا، لقد نفضناه و وضعنا بدلا منه عطرا يفوح بالمحبة و الأخوة.
انتهى الأمر و تم إعادة بناء الكنيسة، لم يمر الكثير من الوقت حتى حدثت مذبحة أخرى، المرأة التي أسلمت و احتجزتها الكنيسة، السلفيون يصرخون باستنكار: "أعيدوا لنا أختنا"، شبت المعركة و راح من راح و أُصيب من أُصيب، عادت الفتنة لأوجها مرة أخرى.
و مع التأكيدات على أن هذا حدث من خلال النظام السابق كذلك لزرع الفتنة بين الناس في محاولة لهدم الوطن، لم يهدأ وطيس المعركة و لم يخف، المظاهرات مشتعلة على أوجها، كل حزب بما لديهم فرحون، عندما يجد المسلم أن تهمة إثارة الزوبعة صدرت من شخص مسيحي يفرح و يهلل و يكبر و يحمد ربه على نعمة الإسلام، عندما يرَ المسيحي أن المسلم قد هاجمه و حرق و أصاب و هدم و قتل يفرح و يقول "هذا هو إسلامكم هذا هو دينكم".
و الواقع إنه حتى لو كان صحيحا ما يقال أن ما حدث قد حدث بيد النظام السابق، فهذا لا ينفي أبدا وجود المتعصبين و المتشددين الذين أحسن استغلالهم في زرع الفتنة و الوقيعة بين أفراد الشعب و لكن هل زرعها حقا أم أنها كانت قد زُرعت و اكتفى هو بأن يرويها بالنار ؟ طوال حياتي عشت أرى الكثيرين من المسلمين ــ و مع الأسف ــ عندما يعرفون أن هذا الشخص مسيحي يتلافونه و لا يوجهون له كلام بل و يسخرون منه في بعض الأحيان، حدث ذات مرة معي في محاضرة إبّان فترة دراستي، كان أحد أعياد المسيحيين يأخذونه هم كإجازة من العمل و الدراسة و المسلمون لا، فدخل المحاضر إلى القاعة وقال "تهيألي مفيش مسيحيين النهاردة" فرد عليه شخص: "لأ كله النهاردة موحد بالله".
أخبرني صديق مسيحي عندما كنا نناقش معا ما حدث من هجوم على كنيسة إمبابة و المجازر التي حاقت بكل من كان هناك، إنه لا يهتم بمن كان السبب في هذا، هو من تـُحرق له كنيسة كل فترة، هو من يموت له إخوة من نفس دينه و من يعش، يعش حياة قلقة خائفة، قال لي بأن المسيحيين يتوقعون الاستشهاد كل لحظة و يأملون في رحمة الله.
قد يعارض الكثيرون هذا الكلام و قد لا يتفقون معه و يقولون إن المسلمين الحقيقيين يرفضون هذا و يشجبونه و لا يفعلونه، و هذا ما أوافق عليه و أؤيده بصفتي مسلم تربى على الاعتدال و احترام اختلافات الآخرين و قد أخذت هذا من ديني الذي عندما أقرأ في قرآني و أحاديث رسولي أجده موافقا لما في عقلي و منطقي، لكن هذا لا ينفي المسؤولية عن هذا المسلم الحقيقي فهؤلاء الذين يعيشون في قلق و فقدوا الثقة فينا هم أهل ذمتنا الذين وصّانا رسولنا صلى الله عليه و سلم عليهم في أنهم في ذمتنا و رقابنا بألا نؤذيهم بقول أو فعل و لا نجبرهم على فعل ما يكرهونه و نجعلهم يعيشون في أمن و أمان لا أن يعيشوا مذمومين مرعوبين ساخطين منا و علينا.
سب و قذف و قتل و تكفير و هدم و تخوين و رعب و غضب و شماتة و حقد و كراهية، نحن نصنع بحرا من الرذائل التي نرتكبها ــ مسلمين و مسيحيين ــ البحر الذي مهما كان أحدنا ماهرا في العوم فلن يستطيع إلا أن يغرق فيه في النهاية مع أن طوق النجاة في يديه يستطيع أن يصنعه من الإيمان و الود و المحبة و التسامح و البناء و الإعمار.