تكبُر الكٌتّاب و تواضع عبد الحليم



عندما بدأت التوغل في عالم الكتابة منذ سنوات عديدة، كنت أنظر إلى هذا العالم كقارئ في بداية الأمر؛ كنت أرغب في مخاطبة الكٌتَاب الذين أقرأ لهم و أخبرهم بأنني أود منكم أن تكتبوا عن كذا و كذا، و من هنا كانت بدايتي؛ لماذا لا أبدأ أنا في كتابة ما أرغب في قراءته من الآخرين ؟ و بالفعل بدأت.


لم تكن كتاباتي في بدايتها موفقة إلى حد كبير فعندما أسترجع بعض محاولاتي الأولى أجد فيها افتعالا و أسلوبا غير محكم و مع هذا كانت تحوز إعجاب البعض، لكن على أية حال هذا أمر طبيعي فلا يمكن لأحد أن يبدأ فورا من القمة بل إنه يتحسن و يصقل مهارته مع الوقت و تزداد خبرته كلما أمسك بالقلم أو ضرب أصابعه على لوحة المفاتيح.


لم أكن أعرف كيف لي أن أبدأ في عالم الاحتراف كي أكون كاتبا محترفا، حاولت طَرق العديد من الأبواب التي كانت ترفض حتى القراءة لي و مع مرورالوقت كان اليأس قد أصابني، و خصوصا مع فشلي الدائم في العثور على فرصة عمل جيدة أو الاحتفاظ بوظيفة حتى لمدة طويلة من الزمن.


كنت قد قررت نشر كتاباتي على صفحات شبكة المعلومات، أنشأت منتدى ثم بعد ذلك هذه المدونة، كل ما يجيء في خاطري أيا كان أكتبه و أعرضه عسى أن يقرأه قارئ أو أكثر، ربما تواتيني الفرصة فيما بعد و تفتح لي طريقا.


فرصة أفضل أتتني مؤخرا و هي المشاركة في ورش الكتابات التي تقيمها بعض المراكز الثقافية، اشتركت بالفعل في ورشة طويلة الأمد و أخرى قصيرة لمدة ثلاثة أيام و تبعتها أخرى، وجدت أن كتاباتي قد حازت قبول محترفي الكتابة كما حازت من قبل قبول القراء العاديين و وجدت هذه الورش و التفاعل مع من يشاركوني هذه الموهبة يخلق لي فرصا جيدة في التعلم و اكتساب الخبرات و طرح اسمي كواحد من الكُتَاب الذين يطمعون في مكانة أفضل.


عالم الكٌتَاب و الأدباء قد صدمني ربما بنفس المقدار الذي استفدت منه، قد يغضب هذا البعض لكن مع الأسف أجد العديد من الكتاب يصرون على الالتزام بشكل واحد من أشكال الكتابة و هو الذي قاموا بتعلمه من رواد الأدب، لكن هذا الشكل من أشكال الكتابة - على تنوع صوره - لا يلفت نظر الشخص العادي الذي لا يقرأ كثيرا.


هذا الصنف من الناس - الذين هم الغالبية العظمى - لا يقرؤون إلا لأسماء معينة يصفها نوعية الأدباء الذين أتحدث عنهم بأنهم ليسوا أدباء و لا يمكن الاعتراف بهم و يُعزّون أنفسهم بأن هؤلاء سينتهون مع مرور الزمن مهما طال و أن الرواد هم الذين مازالت أعمالهم تُقرأ و تٌناقش حتى هذه اللحظة.


لكني أقول لهم من قِبَل من يحدث هذا ؟ فقط من قِبَل من يتعلم الأدب و من أصناف قليلة من الناس لكن الغالبية العظمى لا يلفت نظرهم هذا بل هم يهتمون بأشكال معينة فقط هي التي يحبونها و يقبلون عليها.


و لأن الإبداع واحد؛ فإنني سأضرب لكم مثلا بعبد الحليم؛ هذا الرجل درس في المعهد العالي للموسيقى و معهد الفنون المسرحية كما درس الإخراج و التصوير و التوليف و كان على قدر عال من الثقافة فكان يقرأ في جميع العلوم و في مختلف الفنون و الأدب و مع هذا فكان يتنكر و ينزل إلى الموالد ليشاهد و يعرف لماذا يقبل الناس على هذا الفن و يأخذ منه ما يتماشى مع الفن الذي يقدمه أي أنه كان يقدم "نفسه بدون تغيير" بالشكل الذي "يحبه الناس" و هذه هي المعادلة الصحيحة.


عندما كان يتم عرض فيلم من أفلامه كان يتنكر أيضا ثم يذهب في يوم من الأيام و يشتري تذكرة مثله مثل الناس العاديين ليشاهد ردود أفعالهم بدون زيف أو مجاملة و كان يضع آراءهم في الحسبان لأنهم ببساطة هم من يوجه أعماله إليهم فيجب أن تكون بالشكل الذي يحبونه مع الحفاظ على فكره بدون تغيير.


حادثة أخرى، عندما كان يقوم بتصوير فيلمه الشهير أبي فوق الشجرة، تم تصوير آخر مشهد في العمل و احتفل جميع العاملين في الفيلم بانتهاء التصوير و في أثناء خروج عبد الحليم سمع أحد العاملين يقول أحدهم للآخر "هو إيه الهبل اللي إحنا عاملناه النهارده ده ؟" و هز الآخر رأسه في موافقة، و شعر عبد الحليم بالغضب من هذا، ليس بسبب الرأي الذي سمعه بل لأنه لم يستطع أن يعجبهم ما قدمه.


ثم ذهب إلى وكيل أعماله مجدي العمروسي قائلا: "مجدي أنا عايز أغير نهاية الفيلم" ! و قص عليه ما حدث، نظر مجدي إليه مذهولا و قال: " يا نهار ...، نهاية إيه يا عبد الحليم دي اللي عايز تغيرها ؟! أنت عارف إحنا صرفنا قد إيه على الفيلم ؟! و بعدين نهاية جديدة يعني أجور جديدة و مصاريف جديدة مفيش أصلا ميزانية في الشركة، إحنا فلسنا و منتظرين عرض الفيلم عشان ننقذ نفسنا، و حتى لو قررنا ده، فِكرك إحسان - يقصد الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس مؤلف الفيلم - حيوافق ؟


رد عبد الحليم: أنا اللي حاتصرف و بالنسبة للفلوس أنا اللي حاتكفل بكل ده من معايا.
سأله مجدي مندهشا: "كل ده عشان سمعت اتنين عمال بيقولوا إن النهاية معجبتهمش".
قال عبد الحليم: "الناس دي هي اللي حتنزل و تقطع التذاكر و تروح تتفرج على الفيلم لو دول معجبهمش يبقى الناس بحالها مش حيعجبهم الفيلم".


و بالفعل أقنع عبد الحليم، إحسان عبد القدوس بالكاد على تغيير النهاية مع غضب إحسان من هذا و بعد عرض الفيلم قام إحسان و قبل عبد الحليم في فرح و قال له : "كان عندك حق"، ببساطة لأن ردود أفعال الجمهور على النهاية الجديدة للفيلم أوضحت أن رأي عبد الحليم هو الصحيح لأنه كان رأي الجمهور الذين استمع إليهم و لم يتكبر فيما قدمه إليهم حتى لو كان من تأليف كاتب مشهور بحجم إحسان عبد القدوس.


ما أود أن أخبر به معشر الأدباء، يجب عليكم بالطبع أن تتعلموا من الرواد و طرق الكتابة الصحيحة في فنون الأدب، لكن لا تتعالوا على الناس و تحاولون إجبارهم على طرق في الكتابة و الأدب لا يحبونها و لن يقرؤوها، و لا تحاولوا أن تقولوا على من استطاع الوصول لهؤلاء أنه لا يرقى أن يكون أديبا فمجرد نجاحه في الوصول للناس يعني بالفعل تميزه أكثر من الآخرين الذين لم يستطيعوا الوصول للناس.


أكبر معلم لكم سيكون الناس أنفسهم، تواصلوا، اعقدوا حلقات للنقاش معهم بالإضافة إلى الحلقات التي تعقدونها مع النقاد و الأدباء‘ إذا كنتم ترغبون في الوصول إلى الناس فعليكم بالناس.


سأكون حُلُماً من أحلامي

إرسال تعليق

حقوق النشر © شعاع من الماضي جميع الحقوق محفوظة
x