لم أكن أعلم هل عيناها تنظران إليّ أم لا، كنت أشاهد انعكاس صورتها على المرآة، ظللت صامتا أختلس إليها النظرات السريعة ثم أجعل عينيّ تسقطان بسرعة إلى الأرض حتى لا تلاحظني أو يلاحظني أحد آخر.
كم تمنيت حينها أن أتكلم و أن أنطق بأي شيء، لكن كلماتها قد خرست في حلقي، لم تغادر شفتيّ إلى أذنيها.
و حينها أنهيت ما أقوم به سريعا و أعددت نفسي للرحيل، أخذت أسرع الخطا كما تسرع عينايّ بالهرب من عينيها، لم أكن أرغب في أن أكرر ذات التجربة مرة أخرى، تجربة التعلق بالوهم غير المثبت.
و أنا أبتعد عن مكانها شطح خيالي و فكري إلى ماهية الموقف الذي أعيش فيه، و نظرتي إلى نفسي و حالي، هل تختلف نفسي عما هي عليه منذ أن خلقني الله ؟ كلا؛ فالنفس واحدة لذات الشخص، هل اختلف جسمي ؟ من المؤكد أنه كلما تقدم العمر بالإنسان تغير جسمه، أصبح أشد قوة و أكثر صحة حتى يرجع مرة أخرى بتأثير عكسي إلى بداية خلقه، الضعف و الاستكانة و الحاجة إلى المساعدة.
كل هذه الأشياء يحكمها فكر الشخص و تصرفاته و البيئة التي تحيط به و الظروف التي يحيا فيها و الناس الذين يعيشون معه و من حوله، تتغير فكرته ناحية نفسه و الآخرين أو تظل ثابتة؛ الأمر إذن نسبي.
و حينما أتت النسبية إلى ذهني جال تفكيري إلى تساؤل آخر، هل يمكنني أن أطبق النظرية على نفسي لعلني أستطيع أن أفهمها و أفهم حقيقة ما تصنعه بي أو ما أصنعه أنا بها ؟
نظرت إلى الحب؛ هل هو حب بالفعل أم أنني فقط أراه بهذا الشكل ؟ و هو في واقعه ليس حبا، ماذا لو حاولت أن أنظر إليه بشكل آخر، هل سأراه حبا أم مجرد تعلق بوهم غير حقيقي؟
لماذا أرى اللون الأحمر أحمر و الأزرق أزرق و الأسود أسود ؟ و لماذا يرى غيري من المخلوقات الألوان بشكل مختلف ؟ هل تغيرت الألوان أم أنها ظلت على حالها الذي خُلقت عليه ؟
بالطبع هي ذاتها لكن الذي تغير هو طبيعة من ينظر إليها، فأنا أستطيع أن أرى الألوان بأكثر من هيئة بينما لا يستطيع غيري ذلك ، لكن هل غيري يعلم أنني أرى ألوانا غير التي يراها ؟ كيف سيعلم هذا و هو قد خُلق على هذه الطبيعة و لم يخبره أي شخص بهذا ؟ حتى لو أخبره فإنه لن يعلم ما يعنيه، فهي في حالته، لها هذه الهيئة و لا يستطيع أن يعرف إن كانت لها هيئة أخرى أم لا، إلا إذا رآها بعينيّ أنا.
و لكن دعوني أتوقف مع نفسي لحظة هنا، ماذا لو أنني أنا أيضا أرى الألوان بشكل مخالف لحقيقتها ؟ فغيري بالفعل لا يستطيع رؤية الألوان كما أراها لكن توجد ألوان أخرى لا أستطيع أنا نفسي أن أراها لأن الله لم يمنحني هذه المقدرة فهي إما أعلى من حدودي أو أقل منها و أعني بكلامي هنا الأشعة تحت الحمراء و فوق البنفسجية.
و ذهبت بفكري مرة أخرى إلى العالم الذي أعيش فيه، هل يبدو فعلا كما يصوره لي عقلي أم أن حدودي هي التي تجعلني أراه بهذه الطريقة، هل النملة ترى العالم كما أراه أنا ؟ بالطبع لا فهي تمتلك عينين مخالفتين لعينيّ و تمتلك دماغا تختلف تركيبته عن دماغي و هي أصغر مني في الحجم بمراحل فحبة الأرز الواحدة قد تكون كافية لإطعامها لوقت طويل، لكنّ هذه الحبة لن تكفيني أنا، كما أن نتوءً صغيرا في الحائط قد يكفي ليكون لها بيتا، أما بالنسبة إليّ فقد لا يكفي لأن أدخل فيه إصبعي أو أرى معالمه بشكل واضح.
يا الله ! كيف لي أن أعرف حقيقتي على ما هي عليه فعلا و أنا لا أمتلك إلا ما منحتني إياه ؟ قدراتي محدودة و عقلي أصغر من أن يدرك العديد من الأشياء، قد أكون أعيش في وهم كبير، في عالم غير العالم الحقيقي، في مشاعر ليست حقيقية، هل وجودي حقيقي ؟ هل تبدو عيناي و شفتاي و يداي و أنفي مثلما أراها حينما أنظر إلى انعكاس صورتي في المرآة ؟ هل الانعكاس نفسه مخالف لحقيقتي ؟ لكن ما هي حقيقتي ؟ هل هي ما يراه الآخرون أم ما أراه أنا أم أن حقيقتي شيء آخر لا يراه سواك ؟
نظرت إلى الخلف كي أشاهدها، رأيتها بالفعل تتحرك من بعيد، لا يمكنها أن تلاحظني من زاوية رؤيتها، بالكاد استطعت أنا أن أراها، هي مازالت تتحرك على حالها لم يتغير، ما تغير هو وضعي بالنسبة إليها فلا يمكن لعينيّ حينها أن تلتقي بعينيها أو أن أرى ابتسامتها تملأ شفتيها مع لمحة محببة من الخجل.
و هنا ظننت نفسي أنني قد اهتديت للحل؛ إذا كانت قدرتي أقل من أرى حقيقة الأشياء، فلماذا لا أرضى بأن أعيش في ظل هذه القدرة ؟ سأجعل نفسي تُصدق وهم ما أحيا فيه؛ سيكون حينها حقيقة، ربما ستختلف هذه الحقيقة لو أخذت عقلا و عينين غير ما أمتلكها بالفعل، لكن هذا لن يحدث؛ فلأرضى إذن بما تصوره لي نفسي من أوهام، ربما ملأت عليّ دنيايّ و أصبحت هي الحقيقة بالفعل.
نظرت ناحيتها مرة أخرى لكي أجدها قد توارت عن ناظريّ، لم تعد في حيز رؤيتي و مجال بصري، أصبحت في مكان آخر كما أصبحت أنا بالنسبة إليها.