ثلج كفار قريش



الصورة النمطية لغير المؤمن أنه ذو شعر أشعث غير مهذب، لا يهتم بنظافته الشخصية، كريه الرائحة، جاهل و أمي و أبله في تصرفاته، صوته أجش، يضرب و يركل النساء و يغتصبهن، و غيرها من الصفات غير الحميدة، مع أن كل هذه الأشياء لم يؤكد الإسلام حينما أتى أن كافة الكفار أو غير المؤمنين بهذا الدين، هكذا، بل العكس ذكر الكثير من محاسنهم و أفعالهم الحميدة؛ مثل الشجاعة و الشهامة و نصرة المظلوم و الكرم؛ قال النبي صلى الله عليه و سلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الخلاق"؛ أي أنها بالفعل كانت موجودة و بعثه الله سبحانه و تعالى كي يكملها.

لذلك ليس عجيبا حينما نعرف أن الكفار قبل الإسلام كانوا منفتحين على العالم و يستخدموا كذلك بعض الوسائل و الأساليب المتطورة في عصرهم، أما نحن فإننا نحيا في عصر قد جعل أذهاننا تنفتح لكي تفكر و تتساءل في أمور قد غابت عن أذهان من حيا في عصور سابقة، لا أعرف تحديدا ما السبب في هذا الأمر، لكن ربما كان السبب هو حب الخروج عن المألوف و الرغبة في معرفة ما لم يتم الحديث فيه من قبل.

و لهذا قد يبدو شديد الغرابة بالنسبة لجيلي أو للأجيال السابقة حينما يتساءل طفل قد رأى مشهدا في أحد الأفلام الدينية التي تصور كفار قريش و هم يتناولون الخمر و يضعون في كؤوسهم الثلج؛ هل هذا المشهد حقيقي ؟ و إن كان حقيقيا كيف أتوا بالثلج و من أين ؟

و حينما يفكر كل منا مع نفسه، ستتبادر إلى ذهنه العديد من التساؤلات؛ كيف لهذا الطفل الصغير أن يعرف الخمر و أن الثلج يتم استخدامه في تبريده و هو لم يرَ شخصا في حياته يشربها أمامه ؟ و كيف عرف بسهولة عدم منطقية أن يأتي البدو في أجوائهم شديدة الحرارة بالثلج ؟ و إن أتوا به، كيف لهم أن يحفظوه و لم تكن الثلاجات قد تم اختراعها بعد ؟

و هذا ما سيجعل كل من في جيلي و من سبقونا خارسي الأفواه، يفتحونها في دهشة و يعيد كل منا التساؤل؛ كيف لم يأتي هذا إلى ذهني من قبل ؟

و لقد امتلأت المواقع و صفحات التواصل الاجتماعي بالسخرية من هذا الأمر و كتبها العديد بصيغ متعددة؛ هل كان هناك ثلج في عصر الرسول ؟ كيف كان كفار قريش يأتون به ؟!

و نجح الأمر في إثارة فضولي إلى أقصاه، حتى إنني قد أخذت أبحث عن معلومات تخبرني كيف كان الناس قديما يأتون بالثلج و يقومون بحفظه.

و قبل حتى أن أشرع في بحثي تذكرت دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم الذي يقول فيه: "اللهم اغسل خطاياي بالماء و الثلج و البرد".

كما كان قوله عليه الصلاة و السلام: "الحجر الأسود من الجنة، و كان أشدَّ بياضاً من الثلج ، حتى سوَّدَتْه خطايا أَهلِ الشرك".

و هذا يعني أن النبي الذي ولد و عاش بين البدو و لم ينتقل في أسفاره - على حد علمي - خارج الجزيرة العربية، اللهم إلا في بلاد الشام؛ قد عرف الثلج و استخدمه في بعض أحاديثه؛ مما يعني أن الناس أيضا كانوا يعرفونه.

و جعلني هذا الأمر أزداد حيرة؛ فشبه الجزيرة العربية من المناطق شديدة الحرارة و التي لا يمكن فيها أن يتساقط الثلج، و حتى لو تساقط، كيف كان الناس يحفظونه ؟ و إن كانوا يقومون باستيراده في رحلاتهم من بلاد أخرى، كيف كانوا يحافظون عليه بدون أن يسيح و يتحول إلى ماء، مع طول الرحلة التي كانت قديما على ظهور الدواب ؟!

و على هذا فقد بدأت بحثي و عرفت أن طرق التبريد التي كانت تستخدم قديما، هي طرق طبيعية؛ فكان يتم تشييد بناء من الطين، يصل ارتفاعه إلى 18 مترا، يحتوي على فتحات من أعلى و أسفل كي تسمح بمرور تيارات الهواء الباردة بداخله؛ مما تجعل درجة حرارته تقارب التجمد، و تطلق على هذه العملية التبريد التبخيري.

و بالنسبة للبيوت؛ فكانت المرأة العربية تضع الماء في قُربة و هي عبارة عن قطعة مصنوعة من جلد الماعز - غالبا - بعد دبغه و تنظيفه و خياطته، ثم تتركها في مكان تصله تيارات الهواء؛ كي تحافظ على برودتها.

و بالنسبة للطعام فكانت تضعه في قطع جلدية مشابهة مع تعليقها في سقف المنزل و ضمان وصول تيارات الهواء إليها، و بالنسبة للحوم؛ فكانت قبل حفظها بهذه الطريقة يتم تمليحها ثم تجفيفها.

و بالنسبة لتبريد المنزل؛ فكان يتم تشييده من الطين و الفخار و الجبس؛ لأن هذه المواد تعزل الحرارة و تجعل المنزل من الداخل بدرجة حرارة مناسبة، مع الحرص على جعل الفناء الداخلي مكشوفا؛ حتى يسمح بدخول تيارات الهواء إلى كافة أرجاء المنزل.

كل ما سبق طرحه عظيم، لكن التساؤل سيظل مطروحا؛ هم نجحوا بالفعل في التبريد، لكن ماذا عن صناعة الثلج نفسه و حفظه ؟

ما عرفته من خلال بحثي أنه يتم تجميع الثلج من قمم الجبال والهضاب في فصل الشتاء، كما يتم تقطيع قطع من البحيرات الشمالية، ثم يتم نقل هذه الكميات عن طريق عزلها باستخدام القش و نشارة الأخشاب؛ مما يقلل كمية الماء المفقود من الثلج خلال عملية النقل.

و بعد ذلك يتم حفظها في مبانٍ عميقة محاطة بالأخشاب مع توجيه نوافذها إلى الشمال؛ حتى تسمح لتيارات الهواء بالدخول إليها.

و قد قرأت أنه في أوقات معينة من الشتاء، كانت رؤوس الجبال تمتلئ بالثلوج التي كان يتم نقلها و حفظها بالطرق التي ذكرتها سابقا و بالطبع فإن شبه الجزيرة العربية تمتلئ بالجبال.

و على كل ما قرأته و وجدته خلال بحثي، حمدت الله على نعمة الثلاجة التي تجعلني أشرب ماءً باردا على الدوام و تحفظ لي أطعمتي لوقت أطول، ربما كنت أتمنى أن أحيا في عصر آخر، لكن هذا العصر توجد فيه الكثير من الأشياء التي لن أستطيع أن أحيا بدونها.


سأكون حُلُماً من أحلامي

إرسال تعليق

حقوق النشر © شعاع من الماضي جميع الحقوق محفوظة
x