التفتت عيون الحاضرين إليّ فشعرت بقليل من الاتباك الذي حاولت ألا أظهره قدر استطاعتي، لكني أكملت عبارتي قائلا:
"أكبر مشكلات الأفلام القصيرة و المستقلة عندنا هي أنها تركز على النواحي الفنية و تتجاهل - في معظم الأحوال - الإمتاع؛ لهذا السبب فإن جمهوركم يكون غالبا من نفس الصناعة أو من أصدقائكم، إن كنتم ترغبون في جذب الجمهور العادي، يجب أن تركزوا على الإمتاع كذلك".
رأيت صديقي محمد حسني ينظر إليّ باعتراض و يزم شفتيه؛ فأكملت حديثي:
"ما الأكثر أهمية بالنسبة للمشاهد العادي؛ أن تمنحة المتعة أم الإفادة ؟ أعلم أنك ستقول الإثنين، لكن الأهم بالنسبة إليه حينما يشاهد أو يقرأ أن يستمتع، إن كانت هناك إفادة؛ فخير و بركة، إن لم تكن؛ فتكفيه المتعة".
بدأ بعدها في إعداد آلة العرض لتشغيل ثلاثة من الأفلام القصيرة لأحد المخرجين المستقلين، يدعى محمد علي، لكنه يطلق على نفسه اسم محمد دافنشي، صراحة لا أحب أن يطلق أحد على نفسه اسما غير اسمه الحقيقي، لكن هذا لم يجعلني أحكم عليه بشكل مسبق، كنت في حالة تعب و إرهاق لا تسمح لي بأن أركز كثيرا، واقع الأمر حينما طالبني محمد حسني بالقدوم، حاولت التملص لكنه ذكّرني بذاكرته المحمولة التي أعطاني إياها و سيقوم بتشغيل الأفلام السابق ذكرها من خلالها.
بدأ بالفعل تشغيل فيلم خليك، أول أفلام المخرج محمد علي أو دافنشي - كما يحب أن يطلق على نفسه -، ربما منذ الوهلة الأولى قمت بالربط بين أسلوبه في الإخراج و بين اسم دافنشي، الفيلم كان مليئا باللوحات المرسومة، بعد انتهائي من مشاهدته قال هو أنه قد أخرج الفيلم بشكل يوحي بأن المشاهد يقرأ كتابا و يقّلب بين صفحاته، أبطال الفيلم مجموعة من الأطفال يلعبون و يمرحون معا، حدث أمر ما أدى إلى انزواء أحدهم عنهم، بعد أن مرت السنون و أصبحوا شبابا، عادوا من جديد ليجدوه مازال على هيئته الطفولية.
يحمل الفيلم رسائل ليست بالغامضة لمن يشاهده بتأنٍ، أعجبني جمال الصورة و الموسيقى التصويرية المناسبة لأحداث الفيلم، عرفت من المخرج أنه قد درس الإخراج بالفعل.
الفيلم الثاني يحمل اسم الخزانة 29، كان أحد الأفلام المشاركة في مسابقة أجرتها إحدى القنوات التلفازية الشهيرة؛ لذلك من يشاهد الفيلم، سيرى كل ما كُتب فيه باللغة الإنكليزية، هذا الشيء ضايقني، لكني أعلم أن مخرجه قد اضُطر لهذا.
الفيلم يعرض طفلا ممتلئ الجسم و انطوائي، يضايقه زملاؤه في المدرسة بتعليقات و نظرات سخيفة، كلما فتح خزانته في المدرسة، وجد فيها رسائل سب و تهكم، إلى أن قرر أن يستخدم كل هذه الأشياء المحبطة في عمل إبداعي؛ أي إنه جعل ما قد كان ليحطمه، في توجيه رسالة بناءة و قوية لجميع من سخروا منه.
من أكثر ما يميز محمد دافنشي، هو اختياره المتميز للممثلين؛ فمعظم الأفلام المستقلة التي شاهدتها، لم يعجبني فيها معظم الممثلين، أشعر بأن هذا الأمر ليس كل مخرج يستطيع التحكم فيه؛ نظرا لأن العمل نفسه يكون مجهودا ذاتيا و غالبا لا يتقاضى أي مشارك فيه أجرا عليه، لكن يبدو أن محمد دافنشي يستطيع أن يتحكم جيدا في هذا الأمر.
أما الفيلم الثالث فهو ما تبقى من العطر، و هو مأخوذ عن قصة معروفة سمعناها و قرأناها من قبل، و هو التلميذ المنطوي الذي لا تحبه معلمه نظرا لانطوائيته الشديدة و نظراته غير المريحة، إلى أن تقرر اكتشاف الأمر من خلال ملفه؛ فتعلم أن والدته قد توفيت لإصابتها بالسرطان.
هذا هو الفيلم الوحيد الذي عُرض لمحمد دافنشي بحوار؛ فالفلمان الآخران كانا يخلوان منه، و إن كان الحوار هنا لم يكن كبيرا؛ مما دفعني لأن أسأل المخرج إن كانت له أعمال مبينة على الحوارات؛ لأنني أرغب في أن أعرف إن كانت عنده المقدرة على إخراج أفلام حوارية، كما يستطيع إخراج أفلام لا تعتمد على الحوار.
من الأشياء المميزة لدى محمد دافنشي أن أعماله احترافية بشكل كبير، أعجبتني طريقة الإخراج و المشاهد و اللقطات و اختياراته للممثلين و لمواقع التصوير، و الموسيقى التصويرية على الرغم من كونها مأخوذة من أعمال معروفة، لكنها مركبة على الأفلام بشكل متميز و مناسبة للمواقف و الأحداث.
كانت مشاهدتي لأعمال هذا المخرج الشاب - الذي تغلب على أعماله طابع الطفولة - تجربة ممتعة؛ فقلما استمتعت بمشاهدة أفلام قصيرة و مستقلة، و إن كنت أأمل في أن يحاول مخرجو هذه النوعية أن يعملوا على إنتاج أعمال تحمل قدرا لا بأس به من المتعة كي يستطيعوا جذب جمهور من المشاهدين العاديين.