اسمُها نانسي


أفقد تدريجيا رغبتي في فعل الكثير من الأشياء، اليأس و الإحباط من تغير الظروف يسيطر عليّ، مرت عدة شهور منذ أن قدمت استقالتي من وظيفتي السابقة، و من بعدها حاولت البحث و إرسال سيرتي الذاتية للعديد من الشركات و أصحاب الإعلانات بدون جدوى، لم أذهب لمقابلات شخصية غير مرتين أو ثلاث، حتى حينما حاولت أن أنشئ فصلا للياقة البدنية التي أجيدها، لم يلتحق بها أحد، حاولت أن أعزي ذلك إلى أن المكان لم يقم بالدعاية المطلوبة و أن المواعيد غير مناسبة للكثيرين، لكن لماذا دوما أحاول أن أبحث عن أسباب لإخفاقي و فشلي ؟


حتى في برنامج الأفلام المستقلة الذي أعمل فيه مع صديقي محمد حسني، كان مازال النشاط في بداياته، و لا أعرف هل يمكن أن يتحول هذا إلى عمل دائم أم لا ؟ زاد يأسي و إحباطي كلما فكرت في أن الفرص المتاحة ليست كثيرة، في آخر لقاء جمعني بوالدتي قالت لي بأن أقبل العمل في وظيفة فرد أمن، لم أعلق حينها و شعرت بأنني أنكسر أكثر، حتى إنني قد غادرت المكان لدقائق و أنا أفكر في أمي نفسها منذ عدة سنوات حينما سقطت مغشيا عليها بعد محاولتي العمل كفرد أمن و قالت لي بأن هذا العمل لا يناسبني و لا يناسب وضع أسرتي، ألم يعد قدري عندها كما كان سابقا ؟ أم أنها تفكر في أنه لا يوجد غيره متاح ؟

و أنا بين أفكاري هذه، اتصل بي محمد حسني و هو يقول:
"أحمد، عايزك تيجي إن شاء الله يوم السبت اللي جاي، عشان نادي السينما".
أصبحت في الفترة الأخيرة لا أحضر العروض و أكتفي بمشاهدة الأفلام و كتابة نقد لها، لكنه في هذه المرة كان يلح عليّ بالقدوم، صديقي يلاحظ حالتي النفسية السيئة و يرغب في أن يجعلني أخرج منها بتفاعلي المباشر مع الآخرين و مناقشتهم، رددت عليه قائلا:
"حاضر يا محمد، إن شاء الله جاي".
"فيه مفاجأة المرة دي !"
"شكلك جايب مخرجة، صح ؟"
"آه من القاهرة".
قلت و أنا أضحك:
"أخيرا نويت تطريها علينا ! يا راجل من ساعة ما بدأت البرنامج و أنت منشفها و كل اللي بتجيبهم مخرجين !"

و ذهبت بالفعل إلى المركز مبكرا كما طلب مني، بدأنا في تجهيز المكان، ثم أنبأني بأنه سيذهب لإحضارها، و مرت لحظات حتى دخل محمد مع فتاة، نظر إليّ ثم قال:
"أستاذ أحمد، شغال معايا، الأستاذة نانسي كمال المخرجة".
صافحتها و قلت:
"حمدا لله على السلامة".
ردت قائلة:
"الله يسلمك، ما شاء الله المكان جميل جدا".
قال محمد:
"داليا صديقتنا صاحبة المكان حتنبسط قوي لو سمعت الكلام ده، اتفضلي جوه".
نظرت لي قائلة:
"بعد إذنك".
أعتقد أنها لم تكن تعلم بأنني سأشاهد العرض معهما.
دخلنا إلى القاعة، ثم قال محمد مرتبكا:
"لسه ما فيش حد جه من الناس، إحنا حننتظر كمان عشر دقايق و بعد كده نبدأ".
لم يبدُ على نانسي التي أتت خصيصا من القاهرة أي ضيق و هي تجد القاعة خاوية على عروشها، كنت أشعر بالحرج أيضا، و إن كنت أعيش نفس الشيء.

جلسنا و أخذنا نتحدث حول عالم السينما و الأفلام المستقلة و أخذ محمد يمدح في نانسي و أخلاقها، و قد ظهرت عليها علامات الخجل الشديد من كلامه و هي ترد بارتباك، في حين قال هو:

"نانسي عندها مركز ثقافي في القاهرة و له أنشطة عديدة و متنوعة و مهتم بالسنيما المستقلة برضه".

في حين سألتها أنا:
"عملتي كام فيلم لحد دلوقت ؟"
"فيلمين بس مع الأسف، فيهم واحد لسه ما اتعرضش، بالنسبة للفيلم الأول اسمه أحلام مقلية، أنا عملته من كذا سنة، كان قبل ما حاجات كتير تظهر في التصوير و المونتاج و الإخراج".
"فيه أفلام كتير حاليا، أمريكا بتعمل لها تحديث للجودة أو Remastered".
قال محمد مقاطعا الحديث:
"طيب نبدأ العرض، حنبدأ الأول بفيلم قصير حاصل على الأوسكار".
التفت إليه و أنا أقول:
"بس الهانم المفترض تقعد قدام، عشان هي نجمة اليوم".
ارتبكت و هي تقول ضاحكة:
"حابقى أقوم لما فيلمي يتعرض".

و بعد أن انتهى عرض الفيلم الأول، قام محمد بتشغيل فيلم أحلام مقلية، لم تقم نانسي كمال من مكانها بالطبع، أظن أنني قد سمعت دقات قلبها واضحة، على الرغم من أنه لم يحضر إلا شخصان فقط معنا.
الفيلم يصور حارة شعبية تعيش فيها طفلة صغيرة، تعمل كبائعة فلافل تقوم هي بقليها على ناصية حارتها، الفتاة كانت ظروفها صعبة و عملها مضطرة إليه، لا تمتلك أي ألعاب أو حتى دمية صغيرة، و هو ما جعلها تتخيل أن عجينة الفلافل قد تحولت إلى دمية تلعب معها، في نهاية الأمر قامت بقليها و وضعتها في شطيرة، خرجت الدمية مشيرة إليها، تودعها مبتسمة، و هي على وشك أن يتم التهامها.

فكرة الفيلم بسيطة و مباشرة، اعتمدت نانسي على الرسوم المتحركة في تصوير دمية الفلافل و هي تلعب مع الطفلة، قد لا أكون أحد صناع السينما، لكني أعلم أن هذا كان جهدا كبيرا بذلته في إخراج العمل بهذا الشكل، خاصة مع إنتاجه قبل ظهور الكثير من الوسائل التي قد تساعد الآن على إخراج عمل مماثل بمجهود أقل.

تحدثت نانسي عن الظروف التي واجهتها أثناء صناعة هذا الفيلم، من اختيار الحارة و بطلة العمل، و فشل التصوير الأول، ثم إعادته في حارة أخرى ببطلة جديدة، و على كم النفقات التي تكبدتها ليخرج عملها إلى النور، ذكرني كلامها بما أعانيه أنا أيضا كصاحب إبداع في عدم تمكني من عرض ما أقوم بإنتاجه على نطاق واسع، بالإضافة إلى أننا - كأشخاص لسنا من ذوي الشهرة - نلقى عزوفا من الآخرين - حتى المقربين منا - في تشجيعنا.

حكاية الفيلم كذلك ذكرتني بما أعانيه في حياتي، ربما إن حظي أفضل من حظ بطلة العمل، لكن كل شخص له معاناته الخاصة التي قد تكون بالنسبة لآخر تافهة؛ فكما حال من ظهر في فيلم أحلام مقلية، حتى الفقراء تختلف معاناتهم.


بدت نانسي سعيدة بتجاوبنا معها و إعجابنا بفيلمها، لم أشعر أنها متضايقة من عدم كثافة الحضور، نظرت إليها و أنا أستشف مبدئا أعتقد أنها تحيا به؛ لو حاز عملك على إعجاب شخص واحد حتى؛ فهذا في حد ذاته نجاح، بل إن النجاح هو أن تتمكن من وضع أفكارك قيد التنفيذ و تشاهدها بعينيك.

شخصية نانسي قد تجعل الكثيرين يخجلون من بعض تصرفاتهم و ما يشعرون به، أعتقد أن شخصا آخر كان من الممكن أن يغضب و ينفعل و يثور أو على الأقل يشعر بالحزن و لا يتجاوب، مع عدم حضور الكثيرين، و هي التي أتت على سفر و ستغادر على سفر في نفس اليوم.

طال بنا الحديث بعد ذلك في عدة مواضيع ترتبط بحياتنا و ظروفنا، و أكدت نانسي على أن مشكلة قلة الحضور و التعامل مع أعمال المستقلين موجودة في القاهرة أيضا؛ أعتقد أن كل أرجاء مصر لا يختلف الناس فيها؛ في ظروف معاناتهم و معيشتهم و تعاملهم مع الأمور، لكنهم يطلقون على الفلافل، طعمية.


سأكون حُلُماً من أحلامي

إرسال تعليق

حقوق النشر © شعاع من الماضي جميع الحقوق محفوظة
x